فصل: سنة إحدى وخمسين وأربعمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عود الخليفة إلى بغداد:

لما فرغ السلطان من أمر أخيه إبراهيم ينال عاد يطلب العراق، ليس له هم إلا إعادة القائم بأمر الله إلى داره، فأرسل إلى البساسيري وقريش في إعادة الخليفة إلى داره على أن لا يدخل طغرلبك العراق، ويقنع بالخطبة والسكة، فلم يجب البساسيري إلى ذلك، فرحل طغرلبك إلى العراق، فوصلت مقدمته إلى قصر شيرين، فوصل الخبر إلى بغداد، فانحدر حرم البساسيري وأولاده، ورحل أهل الكرخ بنسائهم وأولادهم في دجلة وعلى الظهر، ونهب بنو شيبان الناس، وقتلوا كثيراً منهم، وكان دخول البساسيري وأولاده بغداد سادس ذي القعدة سنة خمسين وخرجوا منها سادس ذي القعدة سنة إحدى وخمسين.
وثار أهل باب البصرة إلى الكرخ فنهبوه، وأحرقوا درب الزعفران، وهو من أحسن الدروب وأعمرها، ووصل طغرلبك إلى بغداد، وكان قد أرسل من الطريق الإمام أبا بكر أحمد بن محمد بن أيوب المعروف بابن فورك، إلى قريش بن بدران يشكره على فعله بالخليفة، وحفظه على صيانته ابنة أخيه امرأة الخليفة، ويعرفه أنه قد أرسل أبا بكر بن فورك للقيام بخدمة الخليفة، وإحضاره، وإحضار أرسلان خاتون ابنة أخيه امرأة الخليفة.
ولما سمع قريش بقصد طغرلبك العراق أرسل إلى مهارش يقول له: أودعنا الخليفة عندك ثقة بإمانتك، لينكف بلاء الغز عنا، والآن فقد عادوا، وهم عازمون على قصدك، فارحل أنت وأهلك إلى البرية، فإنهم إذا علموا أن الخليفة عندنا في البرية لم يقصدوا العراق، ونحكم عليهم بما نريد. فقال مهارش: كان بيني وبين البساسيري عهود ومواثيق نقضها، وإن الخليفة قد استخلفني بعهود ومواثيق لا مخلص منها.
وسار مهارش ومعه الخليفة حادي عشر ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وأربعمائة إلى العراق، وجعلا طريقهما على بلد بدر بن مهلهل ليأمنا من يقصدهما، ووصل ابن فورك إلى حلة بدر بن مهلهل، وطلب منه أن يوصله إلى مهارش، فجاء إنسان سوادي إلى بدر وأخبره أنه رأى الخليفة ومهارشاً بتل عكبرا، فسر بذلك بدر ورحل ومعه ابن فورك، وخدماه، وحمل له بدر شيئاً كثيراً، وأوصل إليه ابن فورك رسالة طغرلبك وهدايا كثيرة أرسلها معه.
ولما سمع طغرلبك بوصول الخليفة إلى بلد بدر أرسل وزيره الكندري، والأمراء، والحجاب، وأصحبهم الخيام العظيمة، والسرادقات، والتحف من الخيل بالمراكب الذهب وغير ذلك، فوصلوا إلى الخليفة وخدموه ورحلوا، ووصل الخليفة إلى النهروان في الرابع والعشرين من ذي القعدة، وخرج السلطان إلى خدمته، فاجتمع به، وقبل الأرض بين يديه، وهنأه بالسلامة، وأظهر الفرح بسلامته، واعتذر من تأخره بعصيان إبراهيم، وأنه قتله عقوبة لما جرى منه من الوهن على الدولة العباسية، وبوفاة أخيه داود بخراسان، وأنه اضطر إلى التريث حتى يرتب أولاده بعده في المملكة، وقال: أنا أمضي خلف هذا الكلب، يعني البساسيري، وأقصد الشام، وأفعل في حق صاحب مصر ما أجازي به فعله!
وقلده الخليفة بيده سيفاً، وقال: لم يبق مع أمير المؤمنين من داره سواه، وقد تبرك به أمير المؤمنين، فكشف غشاء الخركاة حتى رآه الأمراء، فخدموا وانصرفوا.
ولم يبق ببغداد من أعيانها من يستقبل الخليفة غير القاضي أبي عبد الله الدامغاني وثلاثة نفر من الشهود. وتقدم السلطان في المسير، فوصل إلى بغداد، وجلس في باب النوبي مكان الحاجب، ووصل الخليفة فقام طغرلبك وأخذ بلجام بغلته، حتى صار على باب حجرته، وكان وصوله يوم الاثنين لخمس بقين من ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وعبر السلطان إلى معسكره، وكانت السنة مجدبة، ولم ير الناس فيها مطراً، فجاء تلك الليلة وهنأ الشعراء الخليفة والسلطان بهذا الأمر، ودام البرد بعد قدوم الخليفة نيفاً وثلاثين يوماً، ومات بالجوع والعقوبة عدد لا يحصى، وكان أبو علي بن شبل ممن هرب من طائفة الغز، فوقع به غيرهم فأخذوا ماله، فقال:
خرجنا من قضاء الله خوفاً، ** فكان فرارنا منه إليه

وأشقى الناس ذو عزم توالت ** مصائبه عليه، من يديه

تضيق عليه طرق العذر منها ** ويقسو قلب راحمه عليه

.ذكر قتل البساسيري:

أنفذ السلطان بعد استقرار الخليفة في داره جيشاً عليهم خمارتكين الطغراني في ألفي فارس نحو الكوفة، فأضاف إليهم سرايا بن منيع الخفاجي، وكان قد قال السلطان: أرسل معي هذه العدة حتى أمضي إلى الكوفة وأمنع البساسيري من الإصعاد إلى الشام.
وسار السلطان طغرلبك في أثرهم، فلم يشعر دبيس بن مزيد والبساسيري إلا والسرية قد وصلت إليهم ثامن ذي الحجة من طريق الكوفة، بعد أن نهبوها، وأخذ نور الدولة دبيس بن مزيد رحله جميعه وأحدره إلى البطيحة، وجعل أصحاب نور الدولة دبيس يرحلون بأهليهم، فيتبعهم الأتراك، فتقدم نور الدولة ليرد العرب إلى القتال، فلم يرجعوا، فمضى.
ووقف البساسيري في جماعته، وحمل عليه الجيش، فأسر من أصحابه أبو الفتح بن ورام، وأسر منصور وبدران وحماد، بنو نور الدولة دبيس، وضرب فرس البساسيري بنشابة، وأراد قطع تجفافه لتسهل عليه النجاة فلم ينقطع، وسقط عن الفرس، ووقع في وجهه ضربة، ودل عليه بعض الجرحى، فأخذه كمشتكين دواتي عميد الملك الكندري وقتله، وحمل رأسه إلى السلطان، ودخل الجند في الظعن، فساقوه جميعه، وأخذت أموال أهل بغداد وأموال البساسيري مع نسائه وأولاده، وهلك من الناس الخلق العظيم، وأمر السلطان بحمل رأس البساسيري إلى دار الخلافة، فحمل إليها، فوصل منتصف ذي الحجة سنة إحدى وخمسين، فنظف وغسل وجعل على قناة وطيف به، وصلب قبالة باب النوبي.
وكان في أسر البساسيري جماعة من النساء المتعلقات بدار الخلافة، فأخذن، وأكرمن، وحملن إلى بغداد.
ومضى نور الدولة دبيس إلى البطيحة، ومعه زعيم الملك أبو الحسن عبد الرحيم، وكان من حق هذه الحوادث المتأخرة أن تذكر سنة إحدى وخمسين، وإنما ذكرناها هاهنا لأنها كالحادثة الواحدة يتلو بعضها بعضاً.
وكان البساسيري مملوكاً تركياً من مماليك بهاء الدولة بن عضد الدولة، تقلبت به الأمور حتى بلغ هذا المقام المشهور، واسمه أرسلان، وكنيته أبو الحارث، وهو منسوب إلى بسا مدينة بفارس، والعرب تجعل عوض الباء فاء فتقول فسا، والنسبة فساوي، ومنها أبو علي الفارسي النحوي، وكان سيد هذا المملوك أولاً من بسا، فقيل به البساسيري لذلك، وجعل العرب الباء فاء فقيل فساسيري.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة أقر السلطان طغرلبك مملان بن هسوذان بن مملان على ولاية أبيه بأذربيجان.
وفيها مات شهاب الدولة أبو الفوارس منصور بن الحسين الأسدي، صاحب الجزيرة، عند خوزستان، واجتمعت عشيرته على ولده صدقة.
وفيها توفي الملك الرحيم، آخر ملوك بني بويه، بقلعة الري، وكان طغرلبك سجنه أولاً بقلعة السيروان، ثم نقله إلى قلعة الري فتوفي بها.
وفيها عصى أبو علي بن أبي الجبر بالبطائح، وكان متقدم بعض نواحيها، فأرسل إليه طغرلبك جيشاً مع عميد العراق أبي نصر، فهزمهم أبو علي.
وفيها يوم النوروز أرسل السلطان مع وزيره عميد الملك إلى الخليفة عشرة آلاف دينار سوى ما أضيف إليها من الأعلاق النفيسة.
وفيها، في صفر، توفي أبو الفتح بن شيطا القاري، الشاهد، وكانت شهادته سنة خمس وأربعين وأربعمائة.
وفيها، في شهر ربيع الأول، توفي القاضي أبو الطيب الطبري، الفقيه الشافعي، وله مائة سنة وسنتان، وكان صحيح السمع والبصر، سليم الأعضاء، يناظر ويفتي ويستدرك على الفقهاء، وحضر عميد الملك جنازته، ودفن عند قبر أحمد، وله شعر حسن.
وفي سلخه توفي قاضي القضاة أبو الحسين علي بن محمد بن حبيب الماوردي، الفقيه الشافعي، وكان إماماً، وله تصانيف كثيرة منها: الحاوي وغيره في علوم كثيرة، وكان عمره ستاً وثمانين سنة.
وفي آخر هذه السنة توفي أبو عبد الله الحسين بن علي الرفا، الضرير الفرضي، وكان إماماً فيها على مذهب الشافعي.
وفيها، في شوال، كانت زلزلة عظيمة بالعراق، والموصل، ووصلت إلى همذان، ولبثت ساعة، فخربت كثيراً من الدور، وهلك فيها الجم الغفير.
وفيها توفي أبو محمد عبد الله بن علي بن عياض المعروف بابن أبي عقيل، وكان قد سمع الكثير من الحديث رواه.
وتوفي أيضاً القاضي أبو الحسن علي بن هندي قاضي حمص، وكان وافر العلم والأدب. ثم دخلت:

.سنة إحدى وخمسين وأربعمائة:

.ذكر وفاة فرخ زاد صاحب غزنة وملك أخيه إبراهيم:

في هذه السنة، في صفر، توفي الملك فرخ زاد بن مسعود بن محمود بن سبكتكين، صاحب غزنة، وكان قد ثار به مماليكه سنة خمسين واتفقوا على قتله، فقصدوه وهو في الحمام، وكان معه سيف، فأخذه وقاتلهم، ومنعهم عن نفسه حتى أدركه أصحابه وخلصوه، وقتلوا أولئك الغلمان. وصار بعد أن نجا من هذه الحادثة يكثر ذكر الموت ويحتقر الدنيا ويزدريها، وبقي كذلك إلى هذه السنة، فأصابه قولنج فمات منه، وملك بعده أخوه إبراهيم بن مسعود بن محمود، فأحسن السيرة، فاستعد لجهاد الهند، ففتح حصوناً امتنعت على أبيه وجده، وكان يصوم رجباً وشعبان ورمضان.

.ذكر الصلح بين الملك إبراهيم وجغري بك داود:

في هذه السنة استقر الصلح بين الملك إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين وبين داود بن ميكائيل بن سلجوق، صاحب خراسان، على أن يكون كل واحد منهما على ما بيده، ويترك منازعة الآخر في ملكه.
وكان سبب ذلك أن العقلاء من الجانبين نظروا فرأوا أن كل واحد من الملكين لا يقدر على أخذ ما بيد الآخر، وليس يحصل غير إنفاق الأموال، وإتعاب العساكر، ونهب البلاد، وقتل النفوس، فسعوا في الصلح، فوقع الاتفاق واليمين، وكتبت النسخ بذلك، فاستبشر الناس، وسرهم لما أشرفوا عليه من العافية.

.ذكر وفاة داود وملك ابنه ألب أرسلان:

في هذه السنة، في رجب، توفي جغري بك داود بن ميكائيل بن سلجوق، أخو السلطان طغرلبك، وقيل كان موته في صفر سنة اثنتين وخمسين، وعمره نحو سبعين سنة، وكان صاحب خراسان، وهو مقابل آل سبكتكين ومقاتلهم، ومانعهم عن خراسان، فلما توفي ملك بعده خراسان ابنه السلطان ألب أرسلان، وخلف داود عدة أولاد ذكور منهم: السلطان ألب أرسلان، وياقوتي، وسليمان، وقاروت بك، فتزوج أم سليمان السلطان طغرلبك، بعد أخيه داود، ووصى به بالملك بعده، وكان من أمره ما نذكره.
وكان خيراً، عادلاً، حسن السيرة، معترفاً بنعمة الله تعالى عليه، شاكراً عليها، فمن ذلك أنه أرسل إلى أخيه طغرلبك مع عبد الصمد، قاضي سرخس، يقول له: بلغني إخرابك البلاد التي فتحتها وملكتها، وجلا أهلها عنها، وهذا ما لا خفاء به في مخالفة أمر الله تعالى في عباده وبلاده، وأنت تعلم ما فيه من سوء السمعة وإيحاش الرعية.
وقد علمت أننا لقينا أعداءنا ونحن ثلاثين رجلاً، وهم ثلاثمائة، فغلبناهم، وكنا في ثلاثمائة، وهم في ثلاثة آلاف، فغلبناهم، وكنا في ثلاثة آلاف، وهم في ثلاثين ألفاً، فدفعناهم، وقاتلنا بالأمس شاه ملك، وهو في أعداد كثيرة متوافرة، فقهرناه، وأخذنا مملكته بخوارزم، وهرب من بين أيدينا إلى خمسمائة فرسخ من موضعه، فظفرنا به وأسرناه وقتلناه، واستولينا على ممالك خراسان وطبرستان وسجستان، وصرنا ملوكاً متبوعين، بعد أن كنا أصاغر تابعين، وما تقتضي نعم الله علينا أن نقابلها هذه المقابلة.
فقال طغرلبك: قل له في الجواب: يا أخي أنت ملكت خراسان وهي بلاد عامرة، فخربتها، ووجب عليك مع استقرار قدمك عمارتها، وأنا وردت بلاداً خربها من تقدمني، واجتاحها من كان قبلي، فما أتمكن من عمارتها والأعداء محيطة بها، والضرورة تقود إلى طرقها بالعساكر، ولا يمكن دفع مضرتها عنها.
وله مناقب كثيرة تركناها خوف التطويل.

.ذكر حريق بغداد:

في هذه السنة احترقت بغداد: الكرخ وغيره، وبين السورين، واحترقت فيه خزانة الكتب التي وقفها أردشير الوزير، ونهبت بعض كتبها، وجاء عميد الملك الكندري، فاختار من الكتب خيرها، وكان بها عشرة آلاف مجلد وأربعمائة مجلد من أصناف العلوم منها: مائة مصحف بخطوط بني مقلة، وكان العامة قد نهبوا بعضها لما وقع الحريق، فأزالهم عميد الملك، وقعد يختارها، فنسب ذلك إلى سوء سيرته، وفساد اختياره، وشتان بين فعله وفعل نظام الملك الذي عمر المدارس، ودون العلم في بلاد الإسلام جميعها، ووقف الكتب وغيرها.

.ذكر انحدار السلطان إلى واسط وما فعل العسكر وإصلاح دبيس:

في هذه السنة انحدر السلطان طغرلبك إلى واسط بعد فراغه من أمر بغداد، فرآها قد نهبت، وحضر عنده هزارسب بن بنكير، وأصلح معه حال دبيس بن مزيد، وأحضره معه إلى خدمة السلطان، وأصعد في صحبته إلى بغداد، وكذلك صدقة بن منصور بن الحسين، وضمن واسطاً أبو علي بن فضلان بمائتي ألف دينار، وضمن البصرة الأغر أبو سعد سابور بن المظفر، وعبر السلطان إلى الجانب الشرقي من دجلة، وسار إلى قرب البطائح، فنهب العسكر ما بين واسط والبصرة والأهواز.
وأصعد السلطان إلى بغداد في صفر سنة اثنتين وخمسين ومعه أبو الفتح بن ورام، وهزارسب بن بنكير بن عياض، ودبيس بن مزيد، وأبو علي ابن الملك أبي كاليجار، وصدقة بن منصور بن الحسين وغيرهم، واجتمع السلطان بالخليفة، وأمر الخليفة بعمل طعام كثير حضره السلطان والأمراء وأصحابهم، وعمل السلطان أيضاً سماطاً أحضر فيه الجماعة، وخلع عليهم، وسار إلى بلاد الجبل في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين، وجعل ببغداد شحنة الأمير برسق، وضمنها أبو الفتح المظفر بن الحسين ثلاث سنين بأربع مائة ألف دينار.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة عزل أبو الحسين بن المهتدي من الخطابة بجامع المنصور لأنه خطب للعلوي ببغداد في الفتنة، وأقيم مقامه بهاء الشرف أبو علي الحسن بن عبد الودود بن المهتدي بالله.
وفيها توفي علي بن محمود بن إبراهيم الزوزني أبو الحسن، صحب أبا الحسن الجصري، وروى عن أبي عبد الرحمن السلمي، وهو الذي نسب إليه رباط الزوزني المقابل لجامع المنصور.
وفيها، في جمادى الأولى، توفي محمد بن علي بن الفتح بن محمد بن علي أبو طالب العشاري، ومولده في المحرم سنة ست وستين وثلاثمائة، وسمع الدارقطني وغيره. ثم دخلت:

.سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة:

.ذكر عود ولي العهد إلى بغداد مع أبي الغنائم بن المحلبان:

في جمادى الآخرة ورد عدة الدين أبو القاسم المقتدي بأمر الله، ولي العهد، ومعه جدته أم الخليفة، وخرج الناس لاستقباله، وجلس في الزبزب على رأسه أبو الغنائم بن المحلبان، وقدم له بباب الغربة فرس، فحمله ابن المحلبان على كتفه وأركبه وسلمه إلى مجلس الخليفة، فشكره، وخرج ابن المحلبان فركب في الزبزب، وانحدر إلى دار أفردت له بباب المراتب، ودخل إلى الخليفة واجتمع به.
وكان سبب مصير ولي العهد مع ابن المحلبان أنه دخل داره، فوجد زوجة رئيس الرؤساء وأولاده بها، وهم مطالبون من البساسيري، فعرفوه أن رئيس الرؤساء أمرهم بقصده، فأدخلهم إلى أهله، وأقام لهم من حملهم إلى ميافارقين، فساروا مع قرواش لما أصعد من بغداد، ولم يعلم بهم.
ثم لقيه أبو الفضل محمد بن عامر الوكيل، وعرفه ما عليه ولي العهد ومن معه من إيثار الخروج من بغداد، وما هم عليه من تناقض الحال، فبعث ابن المحلبان زوجته، فأتته بهم سراً، فتركهم عنده ثمانية أشهر، وكان يحضر ابن البساسيري وأصحابه، ويعمل لهم الدعوات، وولي العهد ومن معه مستترون عنده، يسمعون ما يقول أولئك فيهم.
ثم اكترى لهم، وسار هو في صحبتهم إلى قريب سنجار، ثم حملوا إلى حران، وسار مع صاحبها أبي الزمام منيع بن وثاب النميري، حين قصد الرحبة، وفتح قرقيسيا، وعقد لعدة الدين على بنت منيع، وانحدروا إلى بغداد.

.ذكر ملك محمود بن شبل الدولة حلب:

في هذه السنة، في جمادى الآخرة، حضر محمود بن شبل الدولة بن صالح بن مرداس الكلابي مدينة حلب، وضيق عليها، واجتمع مع جمع كثير من العرب، فأقام عليها، فلم يتسهل له فتحها، فرحل عنها، ثم عاودها فحصرها، فملك المدينة عنوة في جمادى الآخرة، بعد أن حصرها، وامتنعت القلعة عليه.
وأرسل من بها إلى المستنصر بالله، صاحب مصر ودمشق، يستنجدونه، فأمر ناصر الدولة أبا محمد الحسين بن الحسن بن حمدان، الأمير بدمشق، أن يسير بمن عنده من العساكر إلى حلب يمنعها من محمود، فسار إلى حلب، فلما سمع محمود بقربه منه خرج من حلب، ودخلها عسكر ناصر الدولة فنهبوها.
ثم إن الحرب وقعت بين محمود وناصر الدولة بظاهر حلب، واشتد القتال بينهم، فانهزم ناصر الدولة وعاد مقهوراً إلى مصر، وملك محمود حلب، وقتل عمه معز الدولة، واستقام أمره بها، وهذه الوقعة تعرف بوقعة الفنيدق، وهي مشهورة.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة خلع السلطان طغرلبك على محمود بن الأخرم الخفاجي، وردت إليه إمارة بني خفاجة، وولاية الكوفة، وسقي الفرات، وضمن خواص السلطان هناك بأربعة آلاف دينار كل سنة، وصرف عنها رجب بن منيع.
وفيها توفي أبو محمد النسوي، صاحب الشرطة ببغداد، وقد جاوز ثمانين سنة.
وفيها سد بنو ورام بثق النهروانات، وشرع العميد أبو الفتح في عمارة بثوق الكرخ.
وفيها، في ذي القعدة، توفيت خاتون زوجة السلطان طغرلبك بزنجان، فوجد عليها وجداً شديداً، وحمل تابوتها إلى الري فدفنت بها.
وفيها، ثالث جمادى الآخرة، انقض كوكب عظيم القدر عند طلوع الفجر من ناحية المغرب إلى ناحية المشرق، فطال لبثه.
وفيها، جمع عطية بن صالح بن مرداس جمعاً وحصر الرحبة، وضيق على أهلها، فملكها في صفر من هذه السنة.
وفيها توفيت والدة الخليفة القائم بأمر الله، واسمها قطر الندى، وقيل بدر الدجى، وقيل علم، وهي جارية أرمينية.
وفيها توفي محمد بن الحسين بن محمد بن الحسن أبو علي المعروف بالجازري النهرواني، وكان مكثراً من الرواية، الجازري بالجيم وبعد الألف زاي ثم راء.
وفيها توفي باي أبو منصور الفقيه الجيلي، بالباء الموحدة وبعد الألف ياء تحتها نقطتان، ومحمد بن عبيد بن أحمد بن محمد أبو عمرو بن أبي الفضل، الفقيه المالكي. ثم دخلت:

.سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة:

.ذكر وزارة ابن دارست للخليفة:

لما عاد الخليفة إلى بغداد استخدم أبا تراب الأثيري في الإنهاء، وحضور المواكب، ولقبه حاجب الحجاب، وكان قد خدمه بالحديث، وقرب منه، فخاطب الشيخ أبو منصور بن يوسف في وزارة أبي الفتح منصور بن أحمد بن دارست، وقال إنه يخدم بغير إقطاع، ويحمل مالاً، فأجيب إلى ذلك، فأحضر من الأهواز إلى بغداد، وخلع عليه خلعة الوزارة منتصف ربيع الآخر، وجلس في منصبه، ومدح الشعراء، فممن مدحه وهنأه أبو الحسن الخباز بقصيدة منها:
أمن الملك بالأمين أبي الفت ** ح وصدت عن صفوة الأقذاء

دولة أصبحت، وأنت ولي ** الرأي فيها، لدولة غراء

وهي طويلة. وكان ابن دارست في أول أمره تاجراً للملك أبي كاليجار.

.ذكر موت المعز بن باديس وولاية ابنه تميم:

في هذه السنة توفي المعز بن باديس، صاحب إفريقية، من مرض أصابه، وهو ضعف الكبد، وكانت مدة ملكه سبعاً وأربعين سنة، وكان عمره لما ملك إحدى عشرة سنة، وقيل ثماني سنين وستة أشهر.
وكان رقيق القلب، خاشعاً، متجنباً لسفك الدماء إلا في حد، حليماً، يتجاوز عن الذنوب العظام، حسن الصحبة مع عبيده وأصحابه، مكرماً لأهل العلم، كثير العطاء لهم، كريماً، وهب مرة ألف دينار للمستنصر الزناتي وكان عنده وقد جاء هذا المال، فاستكثره، فأمر به فأفرغ بين يديه، ثم وهبه له، فقيل له: لم أمرت بإخراجه من أوعيته؟ قال: لئلا يقال لو رآه ام سمحت نفسه به، وكان له شعر حسن.
ولما مات رثاه الشعراء، فمنهم أبو الحسن بن رشيق فقال:
لكل حي وإن طال المدى هلك ** لا عز مملكة يبقى، ولا ملك

ولى المعز على أعقابه فرمى، ** أو كاد ينهد من أركانه الفلك

مضى فقيداً، وأبقى في خزائنه ** هام الملوك، وما أدراك ما ملكوا

ما كان إلا حساماً سله قدر ** على الذين بغوا في الأرض وانهمكوا

كأنه لم يخض للموت بحر وغىً، ** خضر البحار، إذا قيست به، برك

ولم يجد بقناطير مقنطرة ** قد أرخت باسمه إبريزها السكك

روح المعز وروح الشمس قد قبضا، ** فانظر بأي ضياء يصعد الفلك

ولما توفي ملك بعده ابنه تميم، وكان مولد تميم بالمنصورية التي هي مقره، منتصف رجب سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، وولاه المهدية في صفر سنة خمس وأربعين، وأقام بها إلى أن وافاه أبوه المعز، لما انتزح عن القيروان من العرب، وقام بخدمة أبيه، وأظهر من طاعته وبره ما بان به كذب ما كان ينسب إليه.
ولما استبد بالملك بعد أبيه سلك طريقه في حسن السيرة، ومحبة أهل العلم، إلا أنه كان أصحاب البلاد قد طمعوا بسبب العرب، وزالت الهيبة والطاعة عنهم في أيام المعز، فلما مات ازداد طمعهم، وأظهر كثير منهم الخلاف، فممن أظهر الخلاف القائد حمو بن مليك، صاحب سفاقس، واستعان بالعرب، وقصد المهدية ليحاصرها، فخرج إليه تميم وصافه، فاقتتلوا، فانهزم حموا وأصحابه، وكثر القتل فيهم، ومضى حمو ونجا بنفسه، وتفرقت خيله ورجاله، وكان ذلك سنة خمس وخمسين.